وقفةُ تأمُّل في أحاديث الوباء تحملُ عَجَبَاً وبِشارةً

رسائل الأوقاف لمواجهة وباء كورونا

الرسالة الثالثة عشرة: «وقفةُ تأمُّل في أحاديث الوباء تحملُ عَجَبَاً وبِشارةً»

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد:
فقد نَظَرتُ في أحاديث الطاعون فوَجدتُ فيها عَجَباً وبِشارة:

أما العجب؛ فإنَّ النبي ﷺ يُرسي في هذه الأحاديث قواعد الطب لكل عصر وحين، وهو الذي علم الأطباء أصول الحجر الصحي في زمن الأوبئة الفتاكة الْمُعدية، ومما يزيد من عَجَبٍ أنَّ النبي ﷺ يُخاطب في هذه الأحاديث شريحةَ الأصِحَّاءِ السَّلِيمين البُرَءاءِ من الْمَرض، وليس الْمرضى ولا الْمُصابين.

اقرأ معي بتمعُّنٍ هذين الحديثين الشريفين كنموذج لِكَمٍّ كبيرٍ من الأحاديث في هذا الباب.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الطاعونُ بَقِيَّةُ رجزٍ أوْ عذابٍ أُرْسِلَ على طائفة مِنْ بني إسرائيلَ؛ فإذا وقَعَ بأرْضٍ وأنتم بِها فلا تخرُجُوا منها فِرارًا منْهُ، وإذا وقع بأرْضٍ ولستم بِها فلا تَهْبِطُوا عليْهاـ وفي رواية (فَلاَ تَدْخُلُوهَا)» [متفق عليه].

وعنه رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الوَجَعَ، أَوِ السَّقَمَ رِجْزٌ، عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ، ثُمَّ بَقِىَ بَعْدُ بِالأَرْضِ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِي الأُخْرَى؛ فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ يَقْدَمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا فَلاَ يُخْرِجَنَّهُ الْفِرَارُ مِنْهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. 

وهنا أود التوقف عند قوله ﷺ: «فإذا وقَعَ بأرْضٍ وأنتم بِها فلا تخرُجُوا منها فِرارًا منْهُ.. »، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا فَلاَ يُخْرِجَنَّهُ الْفِرَارُ مِنْهُ.. »، لنتأملَ البُعدَ الحقيقي لهذا الخطاب النبوي الكريم؛ وهو أنه عليه الصلاة والسلام يُخاطب السَّليمين الأصِحَّاءَ ظاهراً، فيأمُرُهم بِحَجرِ أنفسهم، وينهاهم عن الخروج من بلد الوباء؛ ذلك أن السليم الصحيح، سواء خالَط مريضاً مصاباً، أو لم يُخالِطْهُ، فإنه عُرضةٌ لأنْ يكون مصاباً، أو حاملاً للدَّاءِ (الفيروس) وهو لا يعلم، ولَم يظهر عليه شيء من أعراض الإصابة به.

وهذا الفهمُ هو عَيْنُ ما نُريدُهُ في هذه الأيام؛ فهناك فِئامٌ من الناس يقول: (أنا سليمٌ صحيحٌ لا أشعر بشيء، ولم تظهر عليَّ من أعراض الوباء شيء، فلماذا الْحَجْرُ، ولزومُ البيت؟).

والجواب: نعم؛ الزَمْ بيتَك، واحجُرْ نفسَك؛ فإنْ كُنتَ مريضاً مصاباً، أو حاملاً للدَّاءِ (الفيروس)، فإنك لن تَتَسَبَّبَ في إصابة غيرك، فتكون قد ساهمت في صيانة المجتمع منه، وإنْ كنت سليماً مُعافىًٰ ـ ولله الحمد والْمنِّة ـ فلن ينتقل إليك الدَّاءُ (الفيروس) إلا أن يأذن الله تعالى بهذا أو ذاك.

وأما قوله ﷺ في الأحاديث (لا تدخلوا ـ لا تَهبطوا ـ لا تخرجوا ، ونحوه..). 
فهو أمرٌ بصيغة النهي، وهو أبلغ في إفادة الوجوب والفرضية، ولَمَّا كان حجرُ الْمُصابين؛ لِمَنع اختلاطهم بالأصِحَّاءِ واجباً، وكان امتناعُ الأصِحَّاءِ -حقيقة أو ظاهراً- من مُخالطة الْمصابين مفروضاً، وجب على جهات الاختصاص التي يناط بِها حفظُ مصالِحِ الرَّعِيَّةِ أنْ تنفذ الحجر الصحي على الْمصُابين، وعلى الأصِحَّاءِ؛ الْمُخالطين وغير الْمُخالطين، قسراً، وأن تأطِرَهم عليه أطْرَاً، ولو بالقوة الجبرية؛ صيانة للأنفس، وتقديماً للمصلحة العامة.

أنه آثم، وعليه وزر انتشار الوباء الذي يحصل بسببه؛ حتى إنه لو مات شخص بسببه، فعليه إثم القتل بالتسبب.

ولْيعلم كل مُمتنع عن تنفيذ الْحَجر الصِّحِّيِّ؛ فيخرُجُ من بيته متهوراً، أو لغير حاجة أو ضرورة؛ فهو آثمٌ في تَحَمُّلِ وِزْرِ مَوتِ نفسِهِ انتحاراً، أو ارتكاب جناية نقل العدوى لغيره، وأنه إنْ أُصيب بِها أحدٌ بِسَبَبِهِ، فماتَ، فإنه يستحق عقوبة القصاص؛ لأنه قاتل بالتَّسَبُّب، وإنْ نقَلَها إلى ذويه وأقاربه ووَالِدَيْهِ فهو من العقوق البَشِعِ، والعَمَلِ الْمَشين.

وأما البشارة فقد أتَتْ فيما رَوَتْ أمُّ الْمؤمنين عائشةَ رضي الله عنها أنَّها سألتْ رَسولَ اللهِ ﷺ عنِ الطَّاعونِ، فأخبَرَها نَبيُّ اللهِ ﷺ «أنَّهُ كان عَذابًا يَبعَثُه اللهُ عزَّ وجلَّ علَى مَن يَشَاءُ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَيْتِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلا كانَ له مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ» [أخرجه البخاري].

وظاهر الحديث يفيد أن مَنِ التزم الْحَجْرَ الصِّحِّيَّ، وتعاطى مع ما أوجبه الشرع عليه من لزومِ البيت، ومنْعِ الْمُخالطة عند ظهور الوباء، فجلس في بَيْتِهِ، صابراً في مكوثه، مُحتسباً أجره عند الله تعالى، وهو يعلم أنه لا يُصيبُه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد، وذلك هو معنى (أنَّ الله جعله رحمة للمؤمنين)، وهو ما أفاده قول الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: (اقتضى منطوقُه أنَّ من اتصف بالصفات الْمذكورة يَحصُلُ له أجرُ الشهيد، وإن لم يَمُتْ بالطاعون) [فتح الباري 10/194].

وأفاد ابن حجر في ذات السياق أنَّ هذا هو سِرُّ التعبير بالْمِثْلِيَّةِ في قوله عليه الصلاة والسلام: (لَهُ مِثْلُ أجرِ شَهيدٍ)؛ فإنَّ الأحاديثَ قد صرَّحَتْ أنَّ مَنْ مَاتَ بالطاعون كان شهيداً، فيكون الْمعنى هنا أنَّ مَنْ حَجَرَ نفسَه بالصفات الْمذكورة، ولَم يَمُتْ بالطاعون فَلَهُ مثلُ أجر شهيدٍ، وإنْ لَم تَحصُلْ له درجةُ الشهادة كَمَنْ مَاتَ بِهِ، وفَضْلُ اللهِ وَاسِعٌ. 

لذا -أيها الكرام الفضلاء- فإن العمل بشعار (الزم بيتك) هو عمل بقول حبيبنا ﷺ: (فيمكثُ في بيته صابِرًا محتسبًا)، وهو عبادةٌ نتقرب بها إلى الله تعالى.

فالزموا بيوتكم، يرحمكم الله، ويغفر لكم.

كتبه: الشيخ/ إحسان إبراهيم عاشور | مفتي محافظة خان يونس.
 

مع تحيات| الإدارة العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف.
الأحد: 18. محرم 1442 هـ / الموافق: 2020/9/6 م