رسائل الأوقاف لمواجهة وباء كورونا.
الرسالة السادسة عشرة: «بادروا بالأعمال الصالحة»
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد:
شريعتنا الإسلامية، شريعة سمحة غراء، تراعي مصالح العباد، وتحقق لهم النفع والرشاد، في المعاش والمعاد، ومن عظمة هذه التعاليم أنها تدعوك إلى المبادرة والمسارعة في أعمال الخير، والمسابقة في تحقيق النفع للنفس والمجتمع، قال جل وعلا: ﴿وَلِكُلٍّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلّيها فَاستَبِقُوا الخَيراتِ أَينَ ما تَكونوا يَأتِ بِكُمُ اللَّهُ جَميعًا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [البقرة:148].
وهذه صفة النبيين والمرسلين كما جاء وصفهم في القرآن الكريم ﴿إِنَّهُم كانوا يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَيَدعونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانوا لَنا خاشِعينَ﴾ [الأنبياء:90]..
وهذا دأب نبينا ﷺ في توجيه الأفكار، ومبادرات الخير، فإنك تجده يحث المسلم على المساهمة بأي جهد يحقق فيه نفعاً، قال ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قيلَ: أرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَجِدْ؟ قالَ: يَعْتَمِلُ بيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ ويَتَصَدَّقُ قالَ، قيلَ: أرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قالَ: يُعِينُ ذا الحاجَةِ المَلْهُوفَ قالَ: قيلَ له: أرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قالَ: يَأْمُرُ بالمَعروفِ أوِ الخَيْرِ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قالَ: يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فإنَّها صَدَقَةٌ»[رواه مسلم].
ويتأكد هذا المعنى في وقت الأزمات والكوارث -كجائحة كورونا- فإنك تقرأ كيف كان النبي ﷺ يحث المسلمين ويشجعهم على تقديم مبادرات لخدمة بعضهم في ساعات الضيق، فقد قال ﷺ: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يُوَسّعُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ الْجَنّةُ»، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ يَهُودِيّ بِأَمْرِ النّبِيّ ﷺ وَسَبّلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْيَهُودِيّ يَبِيعُ مَاءَهَا.
والقرآن الكريم يطالعنا بإحدى الصور البليغة في المبادرة الدعوية خلال قصة الهدهد مع نبي الله سليمان- عليه السلام-، إذ يبرز مفهوم المبادرة واضحاً..
حيث سار الهدهد بمفرده دون تكليف مسبق، وجلب خبراً من سبأ أدى إلى دخول أمة كاملة في الإسلام.
إن الإسلام يريد منا التحرك الإيجابي الدائم؛ فكراً وقولاً وعملاً، ويستحثنا لتقديم مبادرات خيِّرة، في سبيل البحث عن مخرج من الأزمات، والنجاة من المحن ، التي تعصف بمجتمعاتنا ، وهذا مبدأ مقرر في قوله تعالى: ﴿وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوى وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾ [المائدة:2].
وصحابة رسول الله ﷺ قدموا مبادرات فريدة في ساعات الشدة، التي مر بها المجتمع المسلم آنذاك، فسلمان الفارسي يستفيد من خلفيته من بلاد فارس، ويقترح حفر الخندق، والحباب بن المنذر يشير بالوقوف عند ماء بدر ليمنع الماء عن الكفار، وآخر ينصب المنجنيق في غزوة الطائف، و يستلم خالد بن الوليد الراية يوم مؤتة بلا تأمير، والصحابي الجليل أبو بصير ينظم حرب عصابات إبان صلح الحديبية، وسيرة الصحابة زاخرة بهذه النماذج المبادرة الفريدة.
والمبادرة هنا على حسب الطاقة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا فالمطلوب أن تبادر بعمل خيرٍ، مهما كان بسيطاً، ومهما كانت الإمكانات محدودة وقد ورد عن الرسول ﷺ أن من البر أن يُفرغ أحدكم في دلو أخيه، أو حتى أن يلقاه بوجه طلق.
وإذا ألقينا نظرة على جانب الزراعة والتجارة، رأينا كيف بادر صحابي فنقل زراعة القمح للحجاز، وعبد الرحمن بن عوف يسأل عن السوق لينفع نفسه ولا يكن عالة على أحد.
وفي الجانب التعليمي، مبادرة عبد الله بن عمرو لتدوين الحديث، وجمع القرآن في عهد أبي بكر، وزيد بن ثابث يتعلم لغة أجنبية، إذ قال عن نفسه: (قال لي رسول الله: «أتحسن السريانية؟» قلت: لا، قال: «فتعلمها»، فتعلمتها في سبعة عشر يوما).
والمستقرئ لمدنية اليوم، يدرك أنها بدأت بمحاولات فردية، تطورت مع الوقت إلى جماعية، ولذا صار من الضروري إدراك مثل هذا الاستقراء، كي يكون دافعاً للمسلم إلى التفكير المستمر، والعمل الدائب، للمشاركة الإيجابية في مسيرة التنمية والبناء، لا سيما أن مناط التكليف في ديننا فردي، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ومن هنا لا يزهدن أحد بدوره، ولا يستصغرن مسلمٌ جهده، فقد سبق درهم ألف درهم، ولا يبتعد ذي لبٍ عن تبليغ الأمانة، فما يدري أحد أين يكون الخير؟ ومتى يؤتي نتاجه، ومتى يثمر؟، وهذا النداء الإلهي يحفزك ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذينَ آمَنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾ [الحديد:21].
اللهم وفقنا لكل خير، واجعلنا متآلفين متكافلين متوادّين مسارعين في الخيرات يا رب العالمين.
م. أمجد غازي مزيد | الخطيب بمديرية أوقاف الوسطى.
مع تحيات |
الإدارة العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
الأحد: 25. محرم 1442 هـ
الموافق: 2020/9/13 م