مواساة الأخلاء في فقد الأحباء

رسائل الأوقاف لمواجهة وباء كورونا..

الرسالة التاسعة عشرة: «مواساة الأخلاء في فقد الأحباء».

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد:

إن الله عز وجل جعل الدنيا دار ممر لا مستقر، ومن عاش مات ولا مفر، والمرء إذا أصابه هم أو كرب أو فقد عزيزاً؛ فليتذكر نعم الله تعالى عليه التي لا تعد ولا تحصى، وأن هذه المحنة تحمل في طياتها منحة من الله سبحانه وتعالى لمن صبر واحتسب الأجر، وهذا الابتلاء هو اختبار من الله سبحانه وتعالى لعباده حتى يعلم الصابرين كما في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].

يا من فجعت بفقد الأحباء في هذا البلاء، وتفطر قلبك على رحيلهم من هذه الدنيا الزائلة، أما تحستب ذلك عن الرحمن الرحيم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لعَبدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةَ» [صحيح البخاري].

اعلم يا عبد الله، ويا أمة الله هذا قضاء الله وقدره، ولا بد أن تتسلح بالإيمان ويلهج لسانك بذكر الرحمن، لقد فقدت الأمة خيرة رجالها في طاعون عمواس من الصحابة رضوان الله عليهم، وفيهم أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه كما ذُكر عند الطبري أنه قال: "دخلت سنة ثماني عشرة ففيها كان طاعون عمواس فتفانى فيها الناس فتوفي أبو عبيدة بن الجراح وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وأشراف الناس" [تاريخ الأمم والملوك (2/487)].

أيها المكلوم على فقد الحبيب والعزيز قد تكون ضاقت عليك الأرض بما رحبت، أما ترضى وتسلم بقضاء الله وقدره وأن أبواب الرحمن لا تغلق فألهج لسانك يا محب بالدعاء للحبيب، واصنع من محنتك منحة تتجاوز بها الصعاب، وأبلغ ما قيل في المواساة "الله قدَّر هذا، والله كفيل به!"* ولنا عبرة في ذلك إمام من أئمة الحديث الشريف ألا وهو الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله مات له ثلاث بنات بالطاعون، فقد ماتت ابنتاه فاطمة وعالية سنة 819هـ، وماتت به ابنته الكبرى زين خاتون سنة 833هـ وهي حامل، وكانت قد تعلَّمت الكتابة والقراءة. [الجواهر والدرر، للسخاوي].

يا من حزنت على فقد الأحباء وأحسست بفراغهم، نبينا محمد ﷺ يذكر بشارة للمؤمنين فيمن مات بالطاعون أو الوباء، تمعن ذلك وطبب قلبك بالرضى والتسليم بقضاء الله وقدره واحتسبه عند الله عز وجل من الشهداء، كما جاء في الحديث الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا: أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ» [صحيح البخاري] .

أيها المهموم على فقد الأحباء، وموت الأخلاء، أطلق عنان قلبك لرب السماء، وأكثر من الدعاء، ولا تنسى زادك منها للقاء البارئ، يقول ابن عقيل: "لولا أنّ القلوبَ تُوقنُ باجتماعٍ ثانٍ؛ لتفطّرت المَرائرُ لفِراقِ المُحبّين" [المنتظم].

 

وقال أبو العتاهية:

اِصبِـــر لِكُـــلِّ مُصيبَـــةٍ وَتَجَلَّــدِ

وَاِعلَــم بِأَنَّ المَــرءَ غَيرُ مُخَلَّــــدِ

أَوَ مـــا تَرى أَنَّ المَصـائِبَ جَمَّــةٌ

وَتَرى المَنِيَّــةَ لِلعِبـــادِ بِمَرصَــدِ

مَن لَم يُصِب مِمَّن تَرى بِمُصيبَةٍ

هَـذا سَبيـلٌ لَستَ فيـــهِ بِأَوحَــدِ

وَإِذا ذَكَــرتَ مُحَمَّداً وَمَصــــابَهُ

فَاِذكُــر مُصـابَكَ بِالنَبِيِّ مُحَمَّــدِ

 

نسأل الله عز وجل أن يفرج عنا وعن المسلمين ما نحن فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

كتبتها: د. مُيَسَّر سلامة أبو عمرة | الدائرة العلمية في العمل النسائي.

مع تحيات|

الإدارة العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف.

الخميس: 29. محرم 1442 هـ

الموافق: 2020/9/17 م