رسائل الأوقاف لمواجهة وباء كورونا..
الرسالة الحادية والعشرون: لا«من حلول الأزمات تعجيل الزكوات قبل حلول آجالها ولو بسنوات».
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية فيها من المرونة ما تستطيع به أن تعالج الأزماتِ والظروف الطارئة؛ كالجوائح، والكوراث، والأوبئة، دون أن تَجُورَ على أموال الأغنياء، ولذا فإن نسبة الزكاة لا تزيد في أكثر الأموال عن رُبع العشر، ويبقى لصاحبه تسعة أعشار ماله، مع ثلاثة أرباع العشر العاشر، ومع ذلك فإن هذه الزكاة عندما تُؤخذ من الأغنياء، وتُوضع في مصارفها تُسهم بنصيبٍ وافرٍ في حلِّ الأزمات، والركود الاقتصادي؛ بدءاً باضطرار الأغنياء لاستثمار أموالهم، وعدم اكتنازها؛ حتى لا تأكلها الصدقات، مروراً بزيادة الاستهلاك عند توفير الكفاية للجميع، وليس انتهاءاً بتوفير المزيد من فرص العمل، وتحويل أكثر الفقراء إلى مُنتجين؛ بتوفير أدوات الحِرَفِ الصغيرة، وقد يتوسع بعضهم مستقبلاً؛ ليكون من مُؤتي الزكاة.
وعلى الرغم من أن في المال حقاً سوى الزكاة لذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب، ومنهم الأسرى، فهو حقٌّ للسائل والمحروم، كما في سورة الذاريات، (الآية: 19) زيادة على الحق المعلوم للسائل والمحروم، وهو الزكاة، كما في سورة المعارج، الآيتان: 24، 25).
على الرغم من ذلك؛ إلا أن الفقهاء يرون أن الأفضل منه أن يُحَرَّضَ الأثرياء أوُلو الطَّوْل من أُولي الفضل منكم والسَّعَة أن يتعجَّلوا دفع زكواتهم لعامٍ أو أكثر؛ فقد أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزكاة من عَمِّه العباس رضي الله عنه مسبقاً لحولينِ كاملين، وقد أجازها بعض الفقهاء في بعض الأحوال لثلاثة أحوال، أو ثلاث حِجَج، ولهم على ذلك المزيد من الحُجَج.
إن تعجيل الزكاة في مثل ظروفنا هنا في غزة أعظمُ أجراً عند الله من تأخيرها إلى الأزمنة المباركة؛ كشهر رمضان، والأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا..} [الحديد:10].
إن في الزكوات والصدقات تكفيراً للسيئات؛ فإن الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وإنْ تُخفوها وتُؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويُكَفِّر عنكم من سيئاتكم، فاتقوا النار، ولو بِشِقِّ تمرة، وسَيُجَنَّبُها الأتقى، الذي يُؤتي ماله يتزكى، وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجْزى؛ إلا ابتغاء وجه ربِّه الأعلى، وفي المقابل فإن الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يُنفقونها في سبيل الله، فَبَشِّرْهم بعذابٍ أليم، يوم يُحمى عليها في نار جهنمَ، فَتُكوى بها جباهُهم وجنوبُهم وظهُورهم، وسَيُطَوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة بثعبانٍ يسمى الشجاعَ الأقرع، ومَنْ يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه، والله الغنيُّ، وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم.
فأين الذين يُوقنون بأنكم لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون؟!؛ بل أين الذين يُؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، يقينا منهم بأن مَنْ يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون؟!؛ فقد ندب الله تبارك وتعالى الجميع إلى الصدقات خفافاً وثقالاً، لاسيما في دعم الصمود، وتقوية الجهود في مواجهة اليهود، أو مجابهة الأزمات داخل الحدود، فقال جلَّ جلاله: {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:121].
وإذا كان الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله؛ كمن يدعم اليهود المحتلين، أو بعض العسكر المغرورين من الجهلة المُغَفَّلين، أو الأغبياء المدفوعين؛ لتعبيد الشعوب المستضعفين للصهاينة والصليبيين؛ أَفَلَسْنا أحقَّ بذلك منهم، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون؟!
إن تطهير النفوس، والأموال، والمجتمع، وإن تحقيق الأمن والتمكين، وغير ذلك من وسائل الإسهام في الحفاظ على مقاصد الإسلام، لن يحصل بغير الإنفاق بالليل والنهار سراً وعلانية؛ لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..} [التوبة:103].
إن الذين يُسَبِّحون لله بالغُدُوِّ والآصال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلَّبُ فيه القلوب والأبصار، فهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة من قبل أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خِلال، وإن الذين تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله، فلا ينفقون من قبل أن يأتي أحدهم الموت، سيقول حين يأتيه: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فاتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدلٌ، ولا هم ينصرون.
كتبه: د. يونس الأسطل | عضو رابطة علماء فلسطين
مع تحيات|
الإدارة العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف.
الجمعة: 2. صفر 1442 هـ
الموافق: 2020/9/19 م