جولات في الفكر الإسلامي
8 - الوسطية والاعتدال
إن سنة الله - عز وجل - في خلقه للكون والـحـيـاة: التكامل والتوازن، وقد خلق - جل وعلا - الإنسان في أحسن تقويم، وجعله يحوي جوانب كـثـيـرة مختلفة: عقلاً، وروحاً، وجسداً، وعواطف، ومشاعر، ولكلٍّ منها حق، ولا يمكن الوفاء بـكـــل حـقــوقها إلا بتوازن يكمِّلها جميعاً، ولا يغلِّب جانباً منها على حساب جانب آخر.
وذلك التوازن هو: الوسطية التي جاء بها الإسلام، حيث إنه منهج وسط للأمة الوسط وهو يمثل ( الصراط المستقيم ) في كل مجال من المجالات ويجسد التوازن في كل شئ: في العقيدة، وفي العبادة، وفي الأخلاق، وفي المعاملات والتشريعات كلها، بعيداً عن الغلو والتفريط.
كما أن الإعراض عن الوسطية هو الهلاك بعينه والضياع في الدين والدنيا معاً، سواء كان الإعراض بالتسيب والانفلات كإضاعة الصلوات واتباع الشهوات، والسير في ركاب شياطين الإنس والجن، أم كان الإعراض عن الوسطية جنوحاً إلى جانب الغلو والتنطع والتشدد، وهو جانب الإفراط أو التطرف، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سبب الهلاك للأمة، عندما قال: (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) [ صحيح الجامع الصغير رقم (268) ]. وقال أيضاً: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً [ رواه مسلم ] وهو لا يكرر الكلمة إلا لعظم خطر مضمونها. والمتنطعون: هم المتشددون المتعمقون المبالغون في التزامهم بالدين بما يخرجهم عن الحد الوسط.
والخير كل الخير في التوسط والتوازن بين الغلو والتقصير أو بين الإفراط والتفريط أو بين (الطغيان والإخسار) على حد تعبير القرآن الكريم: ﴿ والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَع المِيزَانَ * أَلاَّ تَطغَوا في الميزان * وأقيموا الوَزنَ بالقسط ولا تخسروا الميزان ﴾.
والطغيان: تجاوز حد الوسط، إلى جانب الغلو والإفراط، والإخسار: هو تجاوزه إلى جانب التقصير والتفريط.
حتى نفهم الوسطية:
لا تخرج معاني الوسطية عن: العدل والفضل والخيرية، والنِّصف والبينية، والتوسط بين طرفين، فقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (الوسط) أرادوا معاني: الخير والعدل والنّصَفَة، والجودة والرفعة والمكانة العالية.
ولا يصح إطلاق مصطلح (الوسطية) على أمر إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1. الخيرية، أو ما يدل عليها.
2. البينية، سواء أكانت حسية أو معنوية.
كـمـــا يقصد بالتوازن في الشريعة الإسلامية: النظر في كل الجوانب، وعدم طغيان جانب على آخر، وذلك باجتناب الغلو والجفاء. ولا بـــد مـــن فهم حقيقة هذين الأمرين؛ لتفهم حقيقة الوسطية والتوازن، فإنه لا يمكن تحقيقها إلا بعد الفهم السليم لها.
ملامح الفكر الوسطي ومعالمه:
وتحديد ذلك ضروري؛ لتتميز الوسطية عن غيرها، ولئلا تكون مجالاً لأصحاب الأهواء والشهوات، ومن تلك الملامح:
1. الخيرية: وهي تحقيق الإيمان الشامل، يحوطه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2. الاستقامة: وهي لزوم المنهج المستقيم بلا انحراف، فالوسطية لا تعني التنازل أو التميع أبداً.
3. البينية: وذلك واضح في كل أبواب الدين، فالصراط المستقيم بين صراطي المغضوب عليهم والضالين.
4. التيسير والتبشير: وهي سمة لازمة للوسطية، فالتيسير في الفقه والفتوى، والتبشير في الدعوة والتوجيه. كما أن التيسير يكون في الفروع، بينما يكون التشدد في الأصول
5. العدل والحكمة: وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعدل وذلك هو معنى الخيار؛ وذلك لأن خيار الناس: عدولهم.
6. الجمع بين السلفية والتجديد: السلفية تعني العودة للأصول أي الكتاب والسنة. والتجديد يعني: المعايشة للعصر والمواكبة للتطور والتحرر من إسار الجمود والتقليد.
7. الاعتدال بين الظاهرية والمؤولة: فمن معالم الوسطية: الاعتدال والتوازن بين الجمود على ظاهر النص من ناحية، والتوسع في التأويل من ناحية أخرى بلا مسوغ، ولا ضابط.
8. مراعاة الواقع: